في خزانة ملابسك شاهد على أنك قاومت إلى آخر نفس، وتحديت المرض إلى آخر شهقة. فقبل أيام على نهائيات برنامج المسابقات "استوديو دوزيم" الذي نظمته القناة الثانية هذا الصيف، تم الإعلان عن مشاركة زهرة الأغنية المغربية "رجاء بلمليح" في الحفل النهائي. كيف سيكون الحفل بدون حضور الفنانة التي تبنت موهبة شباب في مقتبل العمر، تتذكر بهم تجربتها الأولى مع "مواهب" والأستاذ عباس الجيراري. طلبت من أمك تحضير "قفطان مغربي" يليق بالمناسبة، فيه أصالة المغرب التي كنت أيقونته في الشرق، وروح رجاء المتطلعة للغد الجميل.
وحتى آخر لحظة انتظار، كنا نترقب قدومك ونحن نعلم جيدا أنك لا تخلفين الميعاد، ثم سقط الخبر كالصاعقة.. لن تحظر رجاء لأن حالتها الصحية لا تسمح.
عرفت حينها أن الزمن سيلعب، مرة أخرى، لعبته القذرة، وسيعاملنا مرة أخرى في خسة وندالة، لكن سرعان ما طردت الأفكار السوداء وحاولت الابتهاج.. ستعود كما عادت من قبل.. ستنتفض كما انتفضت من قبل.. ستقلب حسابات الطب والأطباء، وتقوم من سرير المرض إلى مسرح الغناء لتبهج الملايين من معجبيها، وتأخذ القفطان المعلق في خزانتها. ستعود من جديد وستبتسم في وجه الزمان الماكر، وقهر المرض الخبيث.
سيشهد التاريخ أن زهرة نحيلة وقفت في وجه وحش فتاك وتحدته، وكتبت اسمها كبيرا وعريضا كإحدى أكبر الفنانات في تاريخ المغرب والعالم العربي. سوف يشهد الزمان أن فراشة طارت من المغرب الأقصى لتنثر الجمال والبهجة والطرب والفرح والسعادة في قلوب الملايين في الوطن العربي الفسيح.
كانت هذه السنة، سنة رجاء بامتياز، وكأنها تقوم بوداعنا لآخر مرة. كانت تشعر بالمرض ينخر جسدها وتستثمر آخر جهدها لتقدم لنا أجمل ما فيها. تصارعه كل يوم وتقاوم كل يوم، لتنير لنا حياتنا بشعلة جسدها ووهج عزيمتها. كان آخر ظهور لها في اقصائيات استوديو دوزيم في أواخر شهر يونيو، بدت فخورة وزاهية كزهرة من زهور الربيع، وقبلها شاركت في "حفل خميسة" وبرنامج "أهل المغنى".
لقد كانت مغربية حتى النخاع، تعتز بالانتماء الى وطنها. كانت وما تزال نعم السفيرة للمغرب في المشرق وكل العالم. ونادرا ما حقق فنان ما حققته رجاء، بثقافتها ونبلها وحسن أخلاقها. لقد كانت صورة صادقة لفنان حقيقي، وحياتها تجربة فنية فريدة زاوجت فيها بين الانفتاح على العالم والتشبث بالخصوصية.
في كواليس القناة الثانية باغتتها إحدى الحاضرات في عتاب خفيف، بعد أن انتهت من الغناء للتو: لماذا لم تقدمي أغنية مغربية؟ فردت بابتسامتها المعتادة "خليت الأحسن للآخر"، كانت تعتزم تقديم مفاجأة هي عبارة عن أغنية مغربية جديدة ستؤديها لأول مرة في الحفل الختامي للمسابقة، مسك الختام الذي حرمنا منه المرض الجبان الذي لم يمهلها وخطفها من بيننا وحرمنا من أنشودة مغربية جميلة نادرا ما يجود بمثلها الزمان.
من تعاملوا مع رجاء يقولون إنها لا تساوم، ولم تساوم قط، ولا تعرف معنى للمساومة، لأنها لم تسع قط للمجد ولم تجر وراء شهرة، بل الشهرة والمجد هما من سعيا إليها واحتضناها.
من قال إذن إن رجاء رحلت؟ هي لم ترحل ولم تتركنا قط، هي قابعة هناك في مكان ما تنظر إلينا بابتسامتها الخجولة، وستفاجئنا بين الفينة والأخرى ب"زهرة الوادي" على أثير المذياع، أو"حبك قمر" على شاشة التلفزيون، أو ب"صبري عليك طال" يدندن بها مسافر في قطار أو شابة في حديقة.
هكذا هي الدنيا ! قالتها من قبل "أم عمر"، التي كانت رغم مرضها مقبلة على الحياة في نهم ودون شراهة. ونحن نقول "هكذا هي الدنيا"غادرة، متقلبة لدرجة الخسة، لقد غيبت عنا زهرتنا جميعا، بالأمس كانت جنازتها، جنازة سيدة عاشت محترمة وماتت محترمة، رحل جسدها النحيل الواهن لكن في الوقت نفسه شهدنا ميلاد أسطورة مغربية جميلة اسمها رجاء بلمليح